الأعمال التجارية في منظور التصوف

الأعمال التجارية في منظور التصوف

الدكتورس نانانغ شايخو، ماجستير العلوم
محاضر في كلية الدعوة والإعلام والاتصال بجامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية بجاكرتا

في الحقيقة، يُنظر إلى التصوف وعالم الأعمال على أنهما مجالان مختلفان. فعندما يتحدث الناس عن الأعمال التجارية، يتجه التفكير مباشرة إلى تحقيق الأرباح الاقتصادية. أي إن الأعمال هي أعمال (Business is business)، أما الأخلاق فمسألة أخرى. فالأعمال تُعد مجالًا دنيويًا (دنيويًّا/دنيويًّا محضًا)، في حين أن الأخلاق والقيم الروحية المستمدة من التعاليم الدينية تنتمي إلى المجال المتعالي. ولذلك، كثيرًا ما يصعب التوفيق بين الأعمال والأخلاق، فكلاهما أشبه بالماء والزيت.

غير أن من يدرك أهمية الأخلاق في عالم الأعمال، يجد أن قيم التصوف يمكن أن تكون دافعًا قويًا لممارسة الأعمال بصورة صحيحة. فالقيم الصوفية – بما فيها الشريعة والفقه – مثل الصدق، والعدل، والصبر، والثقة المتبادلة، تشكل أساسًا لتحقيق النجاح في الأعمال. أما الذين يهملون الأخلاق تمامًا في ممارساتهم التجارية، فإنهم – إلى جانب دفعهم نحو ممارسات تجارية فاسدة – قد يحققون أرباحًا لا تكون بالضرورة مباركة. ومن أمثلة هذه الممارسات الفاسدة: التلاعب في الموازين، ورفع الأسعار أو تضخيم الميزانيات، وبيع منتجات غير صالحة للاستهلاك.

وبالنسبة لرجال الأعمال المسلمين، فإن الالتزام بأخلاقيات العمل يجب أن يكون مبدأً أساسيًا. فإذا أُديرت الأعمال بأساليب الغش والخداع والنزعة الرأسمالية المفرطة، فإن تحقيق العدالة الاجتماعية يصبح أمرًا بالغ الصعوبة. وحينها، تتسع الفجوة بين الأغنياء والفقراء، فضلًا عن الإضرار بشريحة واسعة من المجتمع.

لقد غرس المتصوفة، منذ زمن بعيد، ممارسات الأعمال الصحيحة. ومن أهم ما طوّروه في هذا المجال مبدأ الحيطة والحذر في ممارسة الأعمال، وذلك من خلال الالتزام بالأخلاق وتحقيق المصلحة العامة. فالأعمال عند المتصوفة تقوم على مراعاة المصالح المشتركة، لا المصالح الفردية أو الفئوية. وهذا السلوك الحذر – الذي هو في جوهره أخلاق – يُمارس لتجنب الإضرار بالآخرين. ومن هنا، فإن الأعمال وفق المنهج الصوفي لا تركز فقط على الخير في الدنيا، بل أيضًا على السعادة في الآخرة.

ويُنظر إلى الغش والخداع وسائر الممارسات التجارية الفاسدة على أنها أعمال آثمة. فغاية الأعمال عند المتصوفة لا تقتصر على المصالح قصيرة الأمد، بل تشمل المصالح البعيدة الأمد والأوسع نطاقًا. وبعبارة واضحة، يُعلّم التصوف أن الآخرة خير وأبقى من الدنيا: ﴿وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى﴾. وبما أن الآخرة هي الغاية الأسمى، فإن ممارسة الأعمال في الدنيا ليست إلا وسيلة لبلوغ حياة أخروية أفضل وأدوم. فإذا أُديرت الأعمال بعيدًا عن الخير المشترك ومشحونة بالصفات المذمومة، فإنها لا تنال رضا الله. وإذا لم يتحقق رضا الله، فإن الأرباح المتحصلة من تلك الأعمال تصبح بلا قيمة، وإن انتفع بها الجسد وشعر بها الإنسان ماديًا.

ويرى المتصوفة أن ما يدخل جوف الإنسان يؤثر تأثيرًا بالغًا في أفعاله كلها. فالأفعال تنبع من النية، والنية مقرها القلب. فإذا فسد القلب، فسدت النية، والنية الفاسدة هي التي تُحدث اضطراب النفس وتُثير الشهوات. وغالبًا ما تنشأ الممارسات التجارية الفاسدة من نيات ملوثة وشهوات جامحة. ومن أجل إشباع هذه الشهوات، قد يلجأ الإنسان إلى أي وسيلة، بما في ذلك الشهوات الدنيوية في عالم الأعمال.

الأعمال بوصفها عطية إلهية

في الوقت الراهن، يشهد العالم حالات عديدة لانهيار شركات وملاحقة أصحابها قضائيًا بسبب غياب الأخلاق في ممارساتهم التجارية. وفي المقابل، هناك شركات كثيرة حققت تقدمًا ملحوظًا لأنها أولت اهتمامًا كبيرًا لأخلاقيات العمل. غير أن بعض رجال الأعمال ما زالوا يرون أن الأخلاق مجرد نظريات، وأن الواقع العملي يحكمه منطق: الأعمال هي أعمال، بغض النظر عن توافقها مع الأخلاق أو تعارضها معها.

غير أن أخلاقيات الأعمال تُعد أمرًا بالغ الأهمية. فالتشريعات القانونية وحدها لا تكفي لتكون أساسًا لممارسة الأعمال، لاسيما وأنها من صنع البشر. ولذلك، لا غرابة أن يلجأ بعض رجال الأعمال إلى التحايل والغش لتحقيق أرباح أكبر، رغم وجود الأطر القانونية.

في الإسلام، تُشجَّع الأعمال التجارية لتحقيق حياة كريمة في الدنيا، وذلك انسجامًا مع وظيفة الإنسان بوصفه خليفة الله في الأرض. غير أن الله تعالى يُذكّر الإنسان بأن السعي وراء نعمه في الدنيا لا ينبغي أن يؤدي إلى إهمال الآخرة. فإهمال الآخرة والانشغال بالدنيا وحدها، أو السعي للآخرة مع إهمال شؤون الدنيا، كلاهما أمر منهي عنه، كما ورد في قوله تعالى:
﴿وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا﴾ (القصص: 77)،
وقوله تعالى: ﴿فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِن فَضْلِ اللَّهِ﴾ (الجمعة: 10).

فالأعمال وسيلة لتحقيق الحياة الدنيوية، لكنها في الإسلام ليست غاية دنيوية فحسب، بل وسيلة لتحقيق السعادة في الدنيا والآخرة معًا. ولتحقيق هذين البعدين، يصبح إدماج القيم الصوفية في عالم الأعمال أمرًا ضروريًا. فالقيم مثل الصدق، والصبر، والعدل، والثقة، يجب أن تكون محط اهتمام رجال الأعمال. ومن دون الأخلاق والروحانية في ممارسة الأعمال، تتشكل شخصيات مخادعة، لا تعود بالضرر على الآخرين فحسب، بل على الشركات نفسها.

ومنذ قرون طويلة، طوّر المتصوفة نموذجًا للأعمال قائمًا على الأخلاق والروحانية. فالروحانية عندهم لا تقتصر على ما هو غيبي أو ميتافيزيقي، بل يمكن إدماجها في الحياة اليومية الدنيوية، بما في ذلك عالم الأعمال. وهكذا، لا تبقى أخلاقيات الأعمال مجرد نظريات مكتوبة، بل تتحول إلى طاقة حقيقية تدفع الشركات نحو التقدم والازدهار من دون فقدان الثقة المجتمعية.

وقد تناولت دارياتـي بي أحمد هذه الفكرة في مقال نشرته في مجلة بانجيماس بتاريخ 23 أغسطس 2003، حيث نقلت إطار التحليل الذي قدمه غاي هندريكس وكيت لوديمان في كتابهما الروحانية في الإدارة والأعمال. وأشارت إلى وجود توجه متزايد لدى رجال الأعمال وقادة الشركات في الغرب، ولا سيما في الولايات المتحدة، للاهتمام بأخلاقيات الأعمال، بل وتنظيم دورات تدريبية خاصة بالأخلاق داخل الشركات.

وتضيف دارياتـي أن هذا الاهتمام تطور لاحقًا نحو ما يُعرف بالروحانية في الإدارة والأعمال. فعلى سبيل المثال، شارك نحو 67 ألف موظف في شركة باسيفيك بيل بكاليفورنيا في تدريب يُعرف بتدريب «كروني»، وهو نمط من التدريب المستوحى من تيارات العصر الجديد (New Age). كما أن العديد من الشركات متعددة الجنسيات تنفق ملايين الدولارات سنويًا للاستعانة بمستشارين يُصنفون ضمن هذا التوجه الروحي الجديد.

وقد أسهم هذا التوجه في تشكيل شخصية رجال الأعمال، حتى باتوا أشبه بالمتصوفة أو الأولياء في المعابد والكنائس والمساجد. وليس هذا الوصف مبالغة، إذ إن روحانية الإدارة دفعت العديد من الشركات الكبرى في الولايات المتحدة إلى تعزيز البعد الروحي لدى قادتها وموظفيها.

وبعد إجراء مقابلات امتدت لأكثر من ألف ساعة مع مئات من رجال الأعمال والمديرين التنفيذيين الناجحين، خلصت الدراسات إلى أن هؤلاء يمتلكون صفات غالبًا ما تُنسب إلى المتصوفة. فهم ينظرون إلى الشركة بوصفها تجسيدًا جماعيًا للروح، ويعتمدون على الحدس، ويعرفون متى وكيف يوظفونه. ويُطلق على هؤلاء وصف «المتصوفة المؤسسيين».

ويرون أن الفهم العميق للروحانية يدفعهم للعمل بنزاهة، والسعي لتحقيق رؤاهم بحماسة، وتحفيز طاقات من يعملون معهم. فهم يدخلون عالم الأعمال بوصفه تجسيدًا لنداء الضمير والروح، إلى جانب كونه وسيلة لتلبية الاحتياجات الاقتصادية.

وبحسب غاي هندريكس وكيت لوديمان، هناك اثنتا عشرة سمة رئيسية يتمتع بها هؤلاء «المتصوفة المؤسسيون»، من بينها: الصدق، والعدل، ومعرفة الذات، والتركيز على الإسهام، والكفاءة في العمل، وإبراز أفضل ما في الذات والآخرين، والانفتاح على التغيير، والتوازن، والانضباط، والرؤية المستقبلية، والتركيز على ما هو قائم.

ورغم أنهم لا يدّعون الكمال، إلا أنهم يمارسون دور المتصوف أو القديس داخل المؤسسات الحديثة. فهم يحافظون على الأخلاق ويجلّون القيم الروحية، ويعيشون انطلاقًا من روحانيتهم الخاصة، وروحانية الآخرين، وروحانية العالم من حولهم.

إنهم يتحركون ديناميكيًا بين عالم الروح وعالم الأعمال، يمتلكون رؤية واقعية، وينظرون إلى الأمور نظرة شمولية وتفصيلية في آن واحد، ويتعاملون مع الآخرين بروح المساواة.

ومن هنا، فإن الروحانية ليست مجرد عقيدة جامدة أو منظومة دينية منظمة، بل هي روحانية حية وديناميكية تتجلى في الحياة اليومية لهؤلاء المتصوفة المؤسسيين.

فهم لا يكتفون بالإيمان بالروحانية، بل يوظفونها عمليًا. إنهم قادة ومديرون ورجال أعمال عالميون، لم يحققوا النجاح المادي فحسب، بل أداروا أعمالهم بأناقة ورقي. لقد جمعوا بين الرفاه المالي والسمو الروحي، لأنهم لم يفقدوا حضور الله في ذواتهم ولا في أعمالهم. والله أعلم.

 

نُشر هذا المقال في عمود الرأي بصحيفة ميديا إندونيسيا، يوم الأربعاء 10 ديسمبر 2025.