محاضر بائس

محاضر بائس

ديرغا مولانا
محاضر في جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية بجاكرتا، المدير التنفيذي لمؤسسة كاتونغ إندونيسيا، وخريج جامعة تسينغهوا

خلف الألقاب الأكاديمية والرسالة النبيلة المتمثلة في تثقيف حياة الأمة، يعيش آلاف الأساتذة الجامعيين في إندونيسيا واقعًا بعيدًا كل البعد عن الاستقرار المعيشي. فهم لا يقتصرون على حَمَلة شهادات الماجستير والدكتوراه من داخل البلاد وخارجها الذين لم يُعيَّنوا بعدُ موظفين مدنيين (ASN)، بل يشملون كذلك الأساتذة غير المتفرغين الذين يعتمدون في معيشتهم على مكافآت تُحسب على أساس عدد الساعات المعتمدة (SKS)، وهي مكافآت لا تبلغ في كثير من الأحيان الحد الأدنى اللازم لتلبية الاحتياجات الأساسية.

هذه الصورة ليست مجرد حكايات فردية متناثرة، بل هي انعكاس بنيوي لمنظومة التعليم العالي التي لم تنجح بعد في إضفاء الطابع الإنساني الكامل على أوضاع مربيها.

كثير من الأساتذة الشباب يعودون إلى الحرم الجامعي بسبب صعوبة العثور على عمل لائق خارج المجال الأكاديمي. ورغم أن التدريس يبدو خيارًا عقلانيًا، فإن الرفاه الموعود لا يزال بعيد المنال. فمكافآت الأساتذة غير المتفرغين غالبًا ما تكون متدنية، وتتأخر في الصرف، بل تُرحَّل لأشهر طويلة، وأحيانًا تُدفع دفعة واحدة بعد فصل دراسي كامل. هذا الواقع يدفع بعضهم إلى عيش حياة مثقلة بالحرمان، في الوقت الذي يتحملون فيه مسؤولية جسيمة تتمثل في إعداد أجيال متعلمة ومستنيرة.

والمفارقة المؤلمة أن مصير الأساتذة—ولا سيما غير المتفرغين وأصحاب عقود العمل—يظل مهمشًا في سياسات التعليم العالي، في الوقت الذي ترفع فيه الدولة شعارات كبرى حول تحسين جودة التعلم وتوسيع نطاق العدالة في الوصول إلى التعليم.

الهشاشة البنيوية (Precaritas Struktural)

تقع على عاتق الدولة مسؤولية دستورية وأخلاقية لضمان رفاه الأساتذة الجامعيين، ولا سيما الأساتذة المتعاقدين، بوصفهم مهنيين متخصصين يستحقون التقدير والدعم. وحتى الأساتذة الدائمون لا يزالون يواجهون تحديات معقدة، بدءًا من محدودية تمويل البحث العلمي، ومرورًا بثقل الأعباء الإدارية، وانتهاءً بتعقيد مسارات الترقية الوظيفية—فكيف الحال بالأساتذة غير المتفرغين الذين يفتقرون إلى أي ضمان وظيفي أو معيشي؟

لقد أسهم هذا الواقع في عزوف كثير من الخريجين عن امتهان التدريس الجامعي، وهو ما ينعكس في تباطؤ نمو أعداد الأساتذة خلال السنوات الخمس الأخيرة. وتتفاقم هذه الأزمة بفعل تصاعد حالة عدم الاستقرار الوظيفي (الهشاشة) التي يعاني منها الأساتذة غير المتفرغين وأصحاب عقود العمل.

أولًا، غياب الاستقرار الوظيفي. إذ يعمل معظم الأساتذة غير المتفرغين بعقود قصيرة الأمد، ما يخلق قلقًا وجوديًا دائمًا ويحول دون التخطيط للحياة على المدى البعيد.

ثانيًا، الفجوة الواسعة في مستوى الرفاه. يتقاضى الأساتذة غير المتفرغين أجورهم على أساس عدد الساعات المعتمدة التي يدرسونها، من دون أي بدلات عائلية، أو تأمين صحي، أو نظام تقاعد، أو إجازات مدفوعة الأجر. بل إن بعض الجامعات لا تصرف هذه المكافآت إلا بعد تأخير يمتد لأشهر، وأحيانًا حتى نهاية الفصل الدراسي.

ثالثًا، محدودية فرص التطور المهني. نادرًا ما يُناقش مستقبل الأساتذة غير المتفرغين، بما في ذلك غياب مسارات مهنية واضحة أو فرص حقيقية لإجراء بحوث مستقلة.

واللافت أن هذه القضايا قد نُظمت بالفعل في عدد من التشريعات. فالقانون رقم 14 لسنة 2005 بشأن المعلمين والأساتذة يضمن إمكانية تعيين الأستاذ بوظيفة دائمة أو غير دائمة، ويكفل حقوقه، بما في ذلك الدخل اللائق، والضمان الاجتماعي، وإمكانية الاستفادة من المرافق التعليمية.

كما ينص القانون رقم 12 لسنة 2012 بشأن التعليم العالي على أن الأستاذ الجامعي هو مربٍّ مهني وعالِم. غير أن التطبيق العملي لا يعكس روح هذه القوانين. فمفهوم “المهنية” يتناقض مع الممارسات الواقعية في تحديد مكافآت الأساتذة غير المتفرغين، حيث تفسر كثير من الجامعات “الدخل اللائق” على أنه لا يتجاوز الحد الأدنى للأجور الإقليمية، من دون مراعاة لمعايير المهنة أو العبء الأكاديمي.

وإذا ما استحضرنا نظرية هرم الحاجات لماسلو (1943)، التي تفترض أن الإنسان يتحرك بدافع تلبية حاجاته بشكل هرمي من الأدنى إلى الأعلى، نجد أن حياة الأساتذة غير المتفرغين عالقة عند المستويين الأدنى: الحاجات الفيزيولوجية وحاجة الأمان. إن عدم استقرار العقود وتدني الدخل يحول دون بلوغهم مستوى تحقيق الذات أو الحصول على دخل كريم، في حين يُفترض أن تكون الجامعة فضاءً لتطوير الذات ومنارة للابتكار والمعرفة.

مفارقة مؤلمة

تزداد هذه الأزمة وضوحًا عند مقارنة الوضع بممارسات دول أخرى. ففي ماليزيا، يبدأ الراتب الأساسي للأستاذ الجامعي الجديد من نحو 3,000 إلى 4,500 رينغيت ماليزي (ما يعادل 10 إلى 15 مليون روبية إندونيسية)، فضلًا عن بدلات متعددة ونظام ضمان اجتماعي واضح مثل صندوق الادخار للموظفين (EPF).

أما في سنغافورة، فالوضع أكثر جاذبية. إذ يتقاضى الأساتذة في جامعات مثل NUS وNTU رواتب تضاهي رواتب المهنيين في القطاع الصناعي. فقد يبدأ راتب الأستاذ المساعد من نحو 70,000 دولار سنغافوري سنويًا (ما يقارب 800 مليون روبية)، إضافة إلى منح بحثية سخية، وبدلات سكن، ونظام تقاعد متكامل.

وفي فيتنام، وهي دولة نامية تمر بمرحلة إصلاح، يظهر التزام حكومي قوي تجاه التعليم. فقد عمدت الحكومة إلى رفع رواتب الأساتذة والباحثين بشكل ملحوظ، إلى جانب تبني سياسات نشطة لتقديم المنح والحوافز لمتابعة الدراسات العليا وإجراء البحوث في الخارج.

تكشف هذه المقارنات أن إندونيسيا تتأخر عن جيرانها في الالتزام بتطوير التعليم مقرونًا بتحسين أوضاع القائمين عليه. ومن ثمّ، تبرز الحاجة إلى خطوات إصلاحية جريئة من قبل الحكومة ومؤسسات التعليم العالي.

أولًا، مراجعة قانون المعلمين والأساتذة والتشريعات المنبثقة عنه بما يضمن الاستقرار الوظيفي والرفاه للأساتذة غير المتفرغين، بما في ذلك تحديد سقف زمني للعقود قبل تثبيتهم أو تعويضهم تعويضًا عادلًا.

ثانيًا، تخصيص موازنات داعمة، مثل توجيه جزء من الدعم الحكومي للجامعات (BOPTN) لتحويل وضع الأساتذة غير المتفرغين إلى أساتذة دائمين.

ثالثًا، تعزيز الشفافية ووضع خارطة طريق مهنية واضحة تتيح للأساتذة غير المتفرغين فرص التثبيت بناءً على معايير عادلة وشفافة.

رابعًا، إعادة احتساب مكافآت الأساتذة غير المتفرغين بحيث لا تقتصر على عدد الساعات المعتمدة، بل تراعي متطلبات المعيشة الكريمة، بما يتناسب مع المؤهلات العلمية والكفاءة الأكاديمية.

إن الأستاذ الذي يعيش في ضيق يعكس منظومة تعليم عالٍ مريضة، تسمح لحراس مستقبل الأمة بالعيش في حالة من عدم اليقين. ومن دون إصلاح جذري يمسّ جذور الهشاشة والفجوة في الرفاه، سيظل طموح إندونيسيا في أن تصبح أمة متقدمة في العلم والتكنولوجيا بعيد المنال.

لقد آن الأوان لأن تضمن الدولة والجامعات حياة كريمة للأساتذة؛ فإهمالهم ليس سوى إهمالٍ مباشر لمستقبل إندونيسيا ذاته.

(نُشِر هذا المقال في عمود الرأي بصحيفة «ميديا إندونيسيا» يوم الاثنين، 12 ديسمبر 2025)