التربية النبوية للنهوض بحضارة العلم

التربية النبوية للنهوض بحضارة العلم

مُحِبّيب عبد الوهاب
(أستاذ الدراسات العليا بكلية علوم التربية والتكوين
بالجامعة الإسلامية الحكومية شريف هداية الله جاكرتا)

تمهيد

يميل نظام التعليم في العصر الرقمي إلى أن يُصمَّم لإنتاج «خريجين» يخدمون عالم الصناعة، ويُسخِّرون أنفسهم لمصالح «الرأسمالية»، ويلبّون احتياجات سوق الخدمات في مجالات التكنولوجيا والاقتصاد والاجتماع وغيرها، أكثر من سعيه إلى ترقية حضارة العلم والإنسان. ومن أبرز الشواهد على ذلك تبنّي مفهوم الربط والمواءمة (link and match)، حيث يُشترط في خريجي التعليم (وخاصة العالي) أن يكونوا قابلين للاستيعاب في سوق العمل ومتوافقين مع احتياجاته. وهكذا تعرّض التعليم لاختزال وتحويل في معناه، من كونه عملية إنسنة للإنسان (humanization) إلى أدلجة أداتية تجعل الإنسان مجرد أداة في خدمة مصالح الصناعة بمختلف أشكالها.

وباعتبارها مركزًا لنقل المعرفة وتطويرها عبر الأجيال، تعرّضت المؤسسات التعليمية أيضًا لحالة من الاغتراب عن جذورها الفلسفية. فلم تعد الأسس الفلسفية في بناء المناهج وتنظيم التعليم تحظى بالاهتمام الكافي. فهل يعود ذلك إلى الاعتقاد بأن الفلسفة قد ماتت؟ لقد صرّح ستيفن ويليام هوكينغ (1942–2018) في وقت سابق بأن الفلسفة قد انتهت. كما صدر كتاب بعنوان «موت الفلسفة» (يناير 2023) لتشارلي هونيمان وآخرين. والسؤال المطروح: هل الفلسفة قد ماتت فعلًا، فلم تعد تُعدّ أساسًا مهمًا لتطوير التعليم؟ وإذا صحّ ذلك، فهل يعني موت الفلسفة أيضًا موت العلم، وبالتالي موت التعليم ذاته؟

ويُقصد بموت الفلسفة (أو العلم) هنا تراجع دورها في تفسير العالم المادي والظواهر الطبيعية، حيث حلّ العلم التجريبي محلّها. فإذا كانت الفلسفة في السابق تُعدّ «أمّ العلوم» (umm al-‘ulūm)، فإن دورها في العصر الحديث يتمثل في كونها منهجًا وقاعدة للتفكير، وأساسًا للاستدلال المنطقي في التنظير وصياغة العلوم. ثم تطوّر العلم ليغدو أساسًا وبوصلة لبناء الحضارة، يُنمّى ويُستثمر لتلبية احتياجات الإنسان الحياتية، بما في ذلك تطوير التكنولوجيا.

ويتقدّم العلم (بما يشمل العلوم الطبيعية والتقنية) بصورة ديناميكية وتراكمية من خلال البحث العلمي. ويزداد تحدّي العلماء في كشف أسرار الكون، ومعالجة مشكلات الحياة، والاستعداد للمستقبل، بما في ذلك الإجابة عن أسئلة لا تستطيع الأديان أو الثقافات وحدها تقديم حلول شافية لها. وقد أصبحت منجزات العلم الحديث المتقدّم دليلًا موجّهًا لمسار الحضارة.

وقد لخّص ألبير كامو (1913–1960)، الحائز على جائزة نوبل للآداب (1957)، مسيرة تطور العلم بقوله:
«إذا كان القرن السابع عشر قرن الرياضيات، والقرن الثامن عشر قرن الفيزياء، والقرن التاسع عشر قرن البيولوجيا، فإن القرن العشرين هو قرن الخوف والقلق».
وذلك لأن العلم تحوّل إلى أحد مصادر التهديد الخطير للإنسانية، من خلال تطوير الأسلحة النووية والكيميائية والبيولوجية. وقد أثبتت التكنولوجيا العسكرية الحديثة أنها أداة قتل جماعي مروّع، كما يتجلّى في الإبادة الجماعية التي يتعرض لها الشعب الفلسطيني على يد النظام الصهيوني الإسرائيلي.

ومن ثمّ، فإن التعليم في صورته المثلى ينبغي أن يُعاد إلى مساره الأصيل بوصفه أداة تحرير (من الشرك والجهل والتخلّف والفقر)، ووسيلة إنسنة (لبناء الأخلاق، والتمدّن، والشخصية الإيجابية)، ومسار تجاوز روحي (بأن يكون التفكير والسلوك موجَّهين للتقرّب إلى الله)، على نحو ما ورثناه من النظام التعليمي الذي أسّسه النبي محمد ﷺ. وبعبارة أخرى: كيف نعيد بناء تعليم نبوي (تعليم نبوي/نبويّ النزعة) قائم على الوحي، وعلى القدوة الحسنة للنبي ﷺ، وعلى العقل الرشيد، ليُنتج خريجين على شاكلة الصحابة رضي الله عنهم، بسموّ أخلاقي ومعرفي يثمر عملًا صالحًا وسلوكًا إصلاحيًا يعمّر الحضارة ويطوّرها؟

المفهوم الأساس للتربية النبوية

يمكن فهم مفهوم التربية النبوية من خلال رسالة النبي محمد ﷺ ورؤيته. فقد بعثه الله سبحانه وتعالى حاملًا رسالة الرحمة والقيم الإنسانية، كما قال تعالى:
﴿وما أرسلناك إلا رحمةً للعالمين﴾ (الأنبياء: 107).
ومن ثمّ، فإن التربية النبوية تقوم على قيم الرحمة، والشفقة، والمحبة، واللين. وهي تركز على تلاوة آيات الله، وتزكية النفس، وتعليم القرآن والسنة.

وقد أكّد القرآن هذا المعنى بقوله تعالى:
﴿هو الذي بعث في الأميين رسولًا منهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلّمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين﴾ (الجمعة: 2).
أما ثمرة التربية النبوية ومآلها فهي إتمام مكارم الأخلاق، كما قال النبي ﷺ:
«إنما بُعثت لأتمّم مكارم الأخلاق» (رواه البيهقي).

ويروي أبو هريرة رضي الله عنه أن النبي ﷺ طُلب منه أن يدعو على المشركين، فرفض، وقال:
«إني لم أبعث لعّانًا، وإنما بُعثت رحمة» (رواه مسلم).
وفي حديث آخر قال ﷺ:
«إن الله لم يبعثني معنتًا ولا متعنّتًا، ولكن بعثني معلّمًا ميسّرًا».

والتربية النبوية تمثّل رأس مال اجتماعيًا وأمانة معرفية ينبغي أن يرثها العلماء، إذ هم ورثة الأنبياء. وقد نجحت التربية النبوية في تحقيق التحوّل الإيماني والعلمي والحضاري لأن النبي ﷺ جمع في شخصه خمسة أدوار نبوية متكاملة: شاهدًا على الحق، ومبشّرًا، ونذيرًا، وداعيًا إلى الله، وسراجًا منيرًا (الأحزاب: 45–46).

وليست التربية النبوية مجرد نقل للمعرفة أو تدريب على المهارات، بل هي عملية شاملة تقترن بالتحفيز القلبي، والقدوة الأخلاقية، والدعوة إلى الخير، وإلهام التغيير الحضاري.

وعند التأمل في أول خمس آيات من سورة العلق (96: 1–5) وآية ﴿كنتم خير أمة﴾ (آل عمران: 110)، يتبيّن أن التربية النبوية تدمج خمسة توجّهات كبرى: التحرير، والإنسنة، والتجاوز الروحي، والتهذيب الأخلاقي، وبناء الحضارة.

الخاتمة

إن التربية النبوية ترمي إلى تحقيق نهضة حضارية متكاملة تقوم على تلازم الإيمان والعلم والعمل الصالح والإصلاحي. والغاية المثلى لهذه الحضارة هي إقامة نظام حياة آمن، عادل، مزدهر، وسعيد في الدنيا والآخرة، أي ﴿بلدة طيبة ورب غفور﴾.
وتكامل الدين والحضارة في الإسلام قد تحقق تاريخيًا عبر منظومة تربوية واجتماعية وسياسية نبوية اتسمت بالانفتاح، والحوار، والإنسانية.