أسس جديدة للسلام العالمي

أسس جديدة للسلام العالمي

الأستاذ الدكتور آسيب سيبودين جهار، ماجستير، دكتوراه

في عالمٍ ما يزال مثقلاً بالصراعات، والاستقطابات الجيوسياسية، والتنافس غير المنتهي على النفوذ، يبرز سؤال جوهري:

هل لا يزال هناك فاعل عالمي يضع القيم الإنسانية فوق الحسابات الجيوسياسية؟
تختار إندونيسيا أن تجيب: نعم، ونحن نختار الوقوف إلى جانب الإنسانية.

لقد أعاد تصريح الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي خلال زيارته الرسمية إلى جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية في جاكرتا قبل مدة، التأكيد على هذا المسار الجوهري.
إذ شدّد على أن الأخلاق الفاضلة والصدق يمثلان رأس المال الأساسي للمسلمين في بناء السلام العالمي، وهي رسالة لا تحمل بعدًا دينيًا فحسب، بل بُعدًا استراتيجيًا جيوسياسيًا أيضًا.

ويكتسب هذا الخطاب أهميته في وقتٍ يبدو فيه العالم وكأنه فقد لغته الإنسانية.

الدبلوماسية الأخلاقية والتعليم الإسلامي

لطالما اعتمدت الجهود الرامية إلى وقف النزاعات العالمية على آليات القوة: قرارات مجلس الأمن، الحصار العسكري، أو التحالفات الاستراتيجية بين القوى الكبرى.
غير أن التاريخ يثبت أن الحلول السياسية وحدها لم تكن كافية يومًا. فما ينقص الساحة الدولية هو الأساس الأخلاقي للمصالحة.

وهنا تبرز أهمية الدعوة إلى الأخلاق والصدق بوصفها ضرورة علمية وواقعية. فالعالم لا يحتاج إلى الاستقرار فحسب، بل إلى بناء الإنسان صاحب القيم.

يؤكد جون بول ليديراخ — أحد أبرز منظّري بناء السلام — في كتابه The Moral Imagination (2005) أن السلام الحقيقي يتطلب شجاعة إنسانية لـ«رعاية العلاقات لا الهيمنة عليها». ويسمّي ذلك بـ الشجاعة العلائقية، أي القدرة على إنسانية الآخر حتى في أقسى الظروف.
ويتقاطع هذا التصور مع التربية الإسلامية التي ترى أن العلم والأدب وجهان لعملة واحدة لا ينفصلان.

وتعزز كاثرين مارشال (جامعة جورجتاون، 2022) هذا الطرح، حيث تشير إلى أن المؤسسات التعليمية والدينية تصبح وسطاء فاعلين في النزاعات عندما تحمل قيم الشفافية، وبناء الثقة، والتعاطف، والمساءلة، لا عندما تكتفي بالخطاب الدogمائي.
بمعنى آخر، تكمن قوة التعليم الإسلامي ليس في المناهج وحدها، بل في الشخصية التي يُنشئها.

فالمعاهد الدينية، والمدارس، والجامعات الإسلامية لا يقع على عاتقها تخريج حملة الشهادات فقط، بل تخريج «حرّاس للعالم» — بشرٍ يجعلون الإنسانية بوصلة أساسية في السياسة والاقتصاد والعلاقات الدولية.

إندونيسيا نموذجًا للاعتدال العالمي

في عالم يتسم بالاستقطاب الديني والأيديولوجي، كثيرًا ما يصف الباحثون الدوليون إندونيسيا بأنها «استثناء إيجابي»: أكبر دولة ذات أغلبية مسلمة في العالم، وفي الوقت نفسه ثالث أكبر ديمقراطية تعددية — دون أن يلغي أحدهما الآخر.

فالهوية الإسلامية القوية تشكّل أساسًا لنضج التجربة الديمقراطية، فيما تتيح الديمقراطية للدين أن يظهر كمصدرٍ للقيم لا كأداة للهيمنة.

يشير ستانلي آر. سلون (2020) إلى أن خصوصية إندونيسيا تكمن في قدرتها على موازنة ثلاثة أركان: الدين، والديمقراطية، والإنسانية.
وفي وقت تنزلق فيه دول كثيرة نحو تطرف علماني أو ديني، اختارت إندونيسيا طريق الاعتدال القائم على الفضيلة المدنية، حيث يتحول الإيمان إلى أخلاق اجتماعية لا إلى أداة صراع رمزي.

وهذا ما يمنح الصوت الإندونيسي، خاصة عند تناوله قضايا النزاع العالمي، شرعية أخلاقية لا تقتصر على الشرعية السياسية.

وتؤكد زيارة رابطة العالم الإسلامي إلى جامعة شريف هداية الله هذا الاعتراف الدولي بالنموذج الإندونيسي.
فإندونيسيا ليست قوة عظمى تفرض تأثيرها بالسلاح أو الاقتصاد، بل بقوة القدوة الاجتماعية — حيث يمكن للتعايش، والحوار بين الأديان، واحترام الكرامة الإنسانية أن يتحقق واقعًا لا utopia.

وفي عصر يسوده الترهيب المتبادل، تقدّم إندونيسيا بديلاً: قيادة ترعى ولا تهيمن. وربما لهذا السبب تحديدًا، تظل تجربتها متماسكة وطويلة الأمد.

دور المؤسسات التعليمية: من الخطاب إلى الفعل

إذا كانت الأخلاق والصدق هما رأسمال السلام العالمي، فإن التعليم هو بنيته التحتية.
فالعالم لا يعاني من نقص في الخطاب الأخلاقي، بل من غياب نظم تعليمية قادرة فعلاً على بناء الشخصية الأخلاقية.

يؤكد تقرير اليونسكو مستقبل التعليم (2021) أن مستقبل البشرية سيتحدد بقدرة المؤسسات التعليمية على بناء المرونة الأخلاقية — أي القدرة على مقاومة الكذب، والتعصب، والتلاعب الرقمي، وثقافة العنف التي باتت مُطبَّعة.

وهنا تحتل المؤسسات التعليمية الإسلامية موقعًا استراتيجيًا.
فهي تمتلك رصيدًا معرفيًا لا يتوفر في النظم التعليمية العلمانية البحتة: علوم الأخلاق، وانضباط الأدب في العملية التعليمية، وعلاقة المعلم بالطالب القائمة على الإخلاص، وتوجيه العلم لخدمة الإنسان (li khidmati al-nās).

وإذا جرى الحفاظ على هذه القيم، يصبح التعليم الإسلامي مصنعًا لبناء الحضارة، لا مجرد ناقل للمعرفة.

فالمناهج التكاملية التي تربط بين العلم، والدين، والأخلاق، والإنسانية قادرة على تحويل المؤسسات التعليمية إلى ورش لصناعة السلام.

ويرى بوكر ودالتون (هارفارد، 2023) أن المؤسسات التعليمية القائمة على القيم تمثل «بنية تحتية للسلام»، لأنها تهيئ فاعلي المستقبل أخلاقيًا قبل أن تهيئهم تقنيًا.

وفي السياق الإندونيسي، تشهد هذه الرؤية مشروعًا متناميًا: حيث تتحول المعاهد والجامعات الإسلامية من مجرد مراكز لتدريس النصوص إلى منتِجة للمعرفة، والابتكار الاجتماعي، ودبلوماسية الحضارة.

وعندما تتجه منظومة التعليم الإسلامي نحو البحث والشراكات الدولية وبناء المناهج الإنسانية، فإن دبلوماسية السلام لا تبقى حكرًا على وزارة الخارجية.
بل تصبح مسؤولية وطنية: كل معلم حارس حضارة، وكل جامعة مكتب دبلوماسية أخلاقية، وكل خريج سفيرًا للإنسانية.

الخاتمة: الحضارة تبدأ من القلب

يمتلئ عالم اليوم بصراعات النفوذ، والتحالفات العسكرية، والتنافس الجيوسياسي.
غير أن التاريخ يعلّمنا أن الأمم الأقوى ليست دائمًا الأكثر حضورًا في الذاكرة؛ بل تلك التي قدّمت الخير للبشرية.

قد توقف الأسلحة الحرب، لكن الأخلاق وحدها قادرة على إنهاء الكراهية.

وهنا تكمن أهمية الدور الإندونيسي، بما تمتلكه من تراث التسامح، والتعددية، والتقاليد الإسلامية العميقة في تزكية النفس.
ففي نظر بهيكو باريخ (2008)، لا يمكن لأمة أن تصبح محورًا حضاريًا ما لم تجعل الصدق، والتعاطف، واحترام الكرامة الإنسانية معايير للتفاعل الاجتماعي.

فالأخلاق ليست ملحقًا للتنمية، بل أساسها.

وإذا نجح المسلمون في تجسيد الصدق، والأدب، والعدل في الحياة الاجتماعية، والاقتصادية، والدبلوماسية، فإنهم لا يبنون سلامًا فحسب، بل يؤسسون حضارة.

عندما تحترم المؤسسات التعليمية النزاهة العلمية، وتُعلي البيروقراطية من شأن الصدق، ويقدّم القادة القدوة، ويتبنى المجتمع ثقافة الثقة المتبادلة — تولد أمة قوية بلا عنف، ومهابة بلا تهديد.

الحضارة تبدأ من القلب: من شجاعة اختيار الصدق حين يكون التلاعب أسهل، واختيار الأدب حين يكون الانفعال أكثر ربحًا، واختيار التعاون حين تكون الاستقطابات أكثر رواجًا.

وعندما ترعى إندونيسيا هذه القيم جماعيًا، فإنها لا تصبح «أمة كبيرة» فحسب، بل مشعلًا إنسانيًا عالميًا — أمة لا تُخضع العالم، بل تُداويه.

نسأل الله تعالى أن ييسّر خطواتنا ليعود الدين رحمة لا حاجزًا، وأن تكون إندونيسيا نورًا للسلام العالمي، عظمى بإسهامها لا بعدد سكانها.

فالعالم اليوم يتنافس على القوة، لكن المستقبل لا يُبنى إلا بالتنافس على الخير.

قد توقف الأسلحة الحرب، لكن الأخلاق والصدق وحدهما قادران على إنهاء الكراهية.

 

تم نشر هذا المقال في عمود الرأي بموقع Disway.id، يوم الجمعة الموافق 5 ديسمبر 2025.