الموضوعية في الكتابة التاريخية

الموضوعية في الكتابة التاريخية

بقلم أسيب سيف الدين جهار

 

مع اقتراب الذكرى الثمانين لاستقلال إندونيسيا، تستعد الحكومة لمشروع طموح يتمثل في إعادة كتابة التاريخ الوطني في عشرة مجلدات، من  التاريخ الإندونيسي المبكر  إلى  عصر الإصلاح .

ويهدف المشروع، الذي يتم تنسيقه من قبل وزارة الثقافة ويشارك فيه 100 مؤرخ من جامعات مختلفة، إلى تجميع سرد تاريخي يزعم أنه موجه نحو المصالح الوطنية وتعزيز القومية.

من أهم الأسباب التي ذُكرت ضرورة مواءمة الروايات التاريخية مع أحدث النتائج. علاوة على ذلك، سعت الحكومة إلى سدّ فجوة في الكتابة التاريخية منذ نشر  الطبعة المحدثة من التاريخ الوطني الإندونيسي  عام ٢٠٠٨.

ومع ذلك، نظرًا لتأثير المشروع الكبير على الذاكرة الجماعية للأمة، ينبغي أن نتساءل كيف سيُكتب التاريخ. ما الذي يستحق أن يُذكر وما الذي سيُقمع؟ هل سيتابع الكُتّاب دورة الأحداث نقديًا أم سيبنون سرديات تُبرز شخصيات معينة وفقًا لمصالح جماعة أو فصيل معين؟

تقودنا هذه الأسئلة إلى مسألة أكثر جوهرية: ما هي النماذج المستخدمة في إعادة كتابة التاريخ الوطني؟ جميعنا نتفق على أن التاريخ ليس سجلاً موضوعياً تماماً للماضي، بل هو بناءٌ لا ينفصل عن من يكتبه، ومن أي منظور، ولصالح من. غالباً ما تعمل هذه العملية كعدسة مكبّرة، تُسلّط الضوء على دور شخصيات معينة، فتبدو وكأنها الفاعل الوحيد في التاريخ، بينما يُحجب أو يُحذف فاعلون آخرون خارج الرواية الرسمية.

في هذا السياق، الحذر ضروري. كتابة التاريخ لا تقتصر على اختيار الشخصيات التي يجب تسليط الضوء عليها، بل يجب أن تقدم فهمًا شاملًا للأحداث. إذا أُعيدت كتابة التاريخ لمجرد تمجيد شخصيات قليلة، فإننا نفتح الباب للتحريف. عندما يُحرّف التاريخ، تفقد الأجيال القادمة فرصة التعلم من التجارب الجماعية لشعوبها.

علاوة على ذلك، علينا أيضًا تجنب قراءة الماضي بصور نمطية مظلمة ومجيدة. يُسلّط ستيفان بيرغر، الذي يدرس كتابة التاريخ الوطني لعدة دول أوروبية منذ عام ١٩٤٥، الضوء على كيفية مواجهة ألمانيا لماضيها المظلم بجدية بعد الحرب العالمية الثانية.

التعلم من الكتابة التاريخية الألمانية

بعد الحرب، بدأ المؤرخون الألمان بإعادة كتابة تاريخهم الوطني بشكل نقدي. على سبيل المثال، أثبت فريتز فيشر أن صعود النازيين لم يكن انحرافًا، بل استمرارًا للتاريخ الألماني الحديث. ومنذ ذلك الحين، سعى العديد من المؤرخين إلى قطع الصلة بين القومية والسرد التاريخي. وحوّلوا السرد القديم للفخر بالاستثنائية الوطنية إلى نقد لإخفاقات الماضي.

وتظهر هذه التجربة أن إعادة كتابة التاريخ الوطني لا تتعلق فقط بتحديث البيانات أو إضافة الحقائق كما اقترح صاحب فكرة كتابة التاريخ، بل تتعلق أيضا بامتلاك الشجاعة لمراجعة النموذج والمنظور للتاريخ نفسه.

من تجربة ألمانيا، نتعلم أن الصراحة بشأن الماضي المظلم لا تُهدد الهوية الوطنية، بل هي فرصة لتنمية النضج الجماعي وبناء أساس فكري أكثر متانة لفهم الهوية الوطنية.

لتحقيق ذلك، يُمكننا اتباع مبادئ الكتابة التاريخية الأكثر موضوعية التي اقترحها ريتشارد ب. سيسيل. أولًا، لا تعني الموضوعية في التاريخ التحرر المطلق من القيم أو الحياد، بل تعني الانفتاح على وجهات نظر متنوعة، بما في ذلك تلك التي همّشتها الرواية الرسمية للدولة أو حتى تحدّت سرديتها.

إن كتابة التاريخ من منظور أصحاب السلطة فقط قد تُخفي الحقيقة وتُقصي أصوات عامة الناس، والجماعات الأصلية، والنساء، أو حتى من اعتُبروا خونة. لذلك، يجب أن تُتيح كتابة التاريخ الوطني مساحةً للروايات المضادة، لتجنب التحيزات الأيديولوجية التي تُضيّق فهمنا للماضي.

ثانيًا، يجب أن ندرك أن الأدلة التاريخية لا تتطابق مع الحدث نفسه. فالوثائق والقطع الأثرية والسجلات التاريخية تُمثل الحدث بشكل غير مباشر، وليست الحدث نفسه. وكما جادل مؤرخون مثل إدوارد دبليو. سترونغ وآر. جي. كولينجوود، فإن الوثائق التاريخية رموز تُشير إلى الماضي، ومعناها يبقى مفتوحًا للتأويل.

لذلك، فإن الادعاءات بأن نسخة من التاريخ "حقيقية" لمجرد أنها تعتمد على أرشيفات معينة يجب أن تكون مصحوبة دائمًا بالوعي بأن تفسير هذا الدليل يعتمد بشكل كبير على السياق ووجهة النظر وطريقة القراءة المستخدمة.

ثالثًا، لمنع اختزال معنى التاريخ إلى مجرد مجموعة من التسلسلات الزمنية، يُعدّ استخدام التخصصات المساعدة، مثل علم الآثار وعلم فقه اللغة وعلم الإنسان، أمرًا بالغ الأهمية. علاوة على ذلك، يُعدّ اتباع نهج متعدد التخصصات أمرًا أساسيًا لفهم شامل للأحداث التاريخية.

في سياق التاريخ الاستعماري، على سبيل المثال، لا بد من إعادة قراءة الأدلة التاريخية بمساعدة دراسات ما بعد الاستعمار، ودراسات النوع الاجتماعي، والاقتصاد السياسي، أو علم نفس المجتمعات المستعمرة. سيساعد هذا النهج تاريخنا الوطني على أن يصبح ليس مجرد سجل لتاريخ الأمة، بل أيضًا انعكاسًا نقديًا لتعقيد تجارب الشعب الإندونيسي.

يجب أن نكون صادقين مع تاريخنا الماضي

انبثقت النقاشات حول تواريخ إندونيسيا الماضية، مثل "ملاري" و"سوبرسمار"، من كتابات صُممت خصيصًا لتناسب أذواق المؤلفين. وكُشف لاحقًا أن أجهزة الاستخبارات لعبت دورًا في تحريف هذه الروايات التاريخية. يجب أن يكون التاريخ قادرًا على خلق رواية متوازنة، لا أن يسيطر عليها مؤلفون متحيزون فقط.

ويجب اتباع نهج عادل وشامل لأن التاريخ سيكون مصدر إلهام يعكس حقًا تنوع تجارب ومساهمات الأطراف المختلفة في رحلة الأمة الإندونيسية.

التاريخ مرآة الماضي، وهو عنصرٌ أساسيٌّ في تطور الأمة. ومع ذلك، غالبًا ما يُسلَّط الضوء على مكانة فردٍ أو جماعةٍ بعينها عند كتابة التاريخ الإندونيسي. يجب تجنُّب هذا، إذ قد يُؤدِّي إلى تحيُّزٍ وتشويهٍ يُضرُّ بفهمنا للواقع التاريخي الحقيقي.

عندما يُفرط المؤرخون في التركيز على عظمة أو دور فرد أو جماعة، يُصبح السرد التاريخي غير متوازن. وقد يُغفل حقائق مُعقدة ومتنوعة من وجهات نظر مُختلفة. ونتيجةً لذلك، يكون التاريخ المُقدم أقل موضوعيةً ويميل إلى التحيز، مما يُضعف قيم العدالة والحقيقة التي ينبغي أن تُشكل أساس التاريخ.

علاوة على ذلك، قد ينقرض التاريخ إذا لم يحافظ كُتّابه على الموضوعية. فالكتابة المتحيزة قد تُغفل حقائق جوهرية وتحرم الأجيال القادمة من فهم كامل لماضيها. وهذا أمر بالغ الخطورة، لأن التاريخ ليس مجرد سجل للماضي، بل هو أيضًا مصدرٌ للتعلم، ويجب الحفاظ على أصالته لمنع تحريفه من قِبل أصحاب المصالح الخاصة.

سواءٌ أكان التاريخ مظلمًا أم مجيدًا، فهو يُقدّم دروسًا قيّمة للأجيال. الكتابة التاريخية الموضوعية أساسيةٌ لبناء مجتمعٍ متحضر. بفهم التاريخ بصدقٍ وشمولية، يُمكن للناس التعلّم من أخطاء الماضي وتجنّب تكرار الأحداث المظلمة. التاريخ الدقيق يُعزّز وعيًا جماعيًا قويًا، ممّا يُمكّن الأمة من النموّ على أسسٍ متينةٍ ومتحضرة.

الكتابة الصحيحة للتاريخ

ينبغي كتابة التاريخ بدقة ليكون عبرة للأجيال القادمة. فالتاريخ المجيد أداة لبناء أمة أفضل. أما التاريخ المظلم فهو تذكير لتجنب تكراره.

تكمن قوة التاريخ في قدرته على تشكيل الوعي الجماعي. هذا الوعي لا يقتصر على الأفراد فحسب، بل يشمل المجتمع بأسره الذي يدرك ويقدّر مسيرة الأمة. هذا الوعي الجماعي هو أساس بناء مستقبل أفضل وأكثر انسجامًا.

تتطلب كتابة التاريخ أيضًا التحليل والتفكير النقدي. ويهدف ذلك إلى إفساح المجال للنمو والتطور لبناء أمة قوية. فالتاريخ لا يقتصر على الماضي فحسب، بل يُشكل أيضًا شخصية وهوية الأجيال القادمة. ومن خلال فهم التاريخ بموضوعية، يمكن للأجيال الشابة استخلاص دروس قيّمة وبناء مستقبل أفضل قائم على قيم الصدق والعدالة والتكاتف.

ومن المهم أيضًا أن تُبنى الكتابة التاريخية على سرد موضوعي، وأن تتقبل بصدر رحب آراء مختلف الأطراف بشأن البيانات والحقائق المتعلقة بالأحداث. بهذه الطريقة، يتجنب المؤرخون المفاهيم الخاطئة والتحيز اللاواعي.

إن عملية الحوار والنقد البنّاء تُثري محتوى التاريخ، مما يُنتج عملاً أكثر شمولاً وتوازناً. علاوة على ذلك، تُعزز الموضوعية في الكتابة التاريخية شرعية التاريخ لدى الجمهور، إذ يشعر بالمشاركة والتقدير في عملية صياغة السرد التاريخي.

بالالتزام بكتابة التاريخ بنزاهة وموضوعية، يُمكن للكتابة التاريخية أن تُعزز العدالة والانفتاح كجزء من التراث الثقافي والهوية الوطنية. علاوة على ذلك، ستُرسي أسسًا متينة لإندونيسيا أكثر تقدمًا وانسجامًا وتنافسية على الساحة العالمية.

في نهاية المطاف، نُدرك أن التاريخ الموضوعي هو مفتاح مستقبل أكثر تحضرًا، حيث يعيش كل مواطن في جو من العدالة والسلام والتقدم المستدام. نأمل ذلك.

---

أسيب صائب الدين جهار هو رئيس جامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية في جاكرتا. نُشر هذا المقال في قسم الرأي بموقع mediaindonesia.com يوم الجمعة، 4 يوليو/تموز 2025.