الدين طريقٌ لمكافحة الفساد

الدين طريقٌ لمكافحة الفساد


أحمد ثولابي خارلي

(أستاذ كرسي بجامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية جاكرتا)

تُعَدّ خطوةُ لجنةِ مكافحةِ الفساد (KPK) في إصدارِ سلسلةِ كتبٍ لمكافحةِ الفساد من منظورٍ دينيٍّ عابرٍ للأديان محطةً مفصليةً في مسار التربية الأخلاقية العامة في إندونيسيا. فالتعاونُ بينَ هذهِ المؤسسةِ المعنيةِ بمكافحةِ الفساد وعددٍ من المديرياتِ العامةِ في وزارةِ الشؤونِ الدينية لا يقدّمُ مجردَ أدبياتٍ أخلاقية، بل يؤكدُ، في جوهره، رسالةً أساسيةً مفادها أن الفساد عدوٌّ للإيمان، وقادرٌ على تقويضِ كرامةِ الإنسان.

وتدعو هذه السلسلةُ أتباعَ الديانات إلى إحياءِ العبادة من خلال أفعالٍ ملموسة قوامُها النزاهة، وذلك بالجرأة على رفضِ الرشوة، والطمع، والابتزاز، ونمطِ العيشِ الاستهلاكي، وإساءةِ استعمالِ السلطة.

وفي مقدمتِه، شدّدَ وزيرُ الشؤونِ الدينية على أن قيمَ العدلِ والصدقِ والمسؤوليةِ الاجتماعية لا تتوقفُ عند حدودِ التعاليمِ المعيارية، بل تتطلبُ تجسيدَها في الحياةِ الدينية، أيًّا كانت التقاليدُ الدينية، سواءٌ في الإسلام أو البوذية أو الهندوسية أو الكاثوليكية أو المسيحية أو الكونفوشيوسية.

وهذا يعني أن الدين لا يجوزُ تهميشُه عن جهودِ مكافحةِ الفساد، بل ينبغي وضعُه في موقعِه الطبيعي بوصفِه ركيزةً لتكوينِ الشخصيةِ العامة التي تعزّزُ القانونَ وثقافةَ النزاهةِ ومكافحةِ الفساد.

أخلاقياتٌ عابرةٌ للأديان

عندما يُساءُ استخدامُ الأمانة، لا تُنتهكُ القواعدُ فحسب، بل تُجرحُ الكرامةُ الإنسانية أيضًا. وهذا ما قصدهُ البابا فرنسيس حين وصفَ الفسادَ بأنه مرضٌ اجتماعيٌّ يسلبُ كرامةَ الإنسان، وجريمةٌ تتعفّنُ من داخلِ القلب.

وبما ينسجمُ مع ذلك، يرى الإسلامُ أن خيانةَ الأمانةِ العامة عملٌ يفسدُ النظامَ الاجتماعي، ويقمعُ الفقراء، ويقوّضُ الثقةَ العامة. أما التعاليمُ البوذية فتؤكدُ أن الجشع، باعتباره أحدَ جذورِ الفساد، هو مصدرُ المعاناة (دوكّا) وانحرافٌ عن القواعدِ الأخلاقية.

ومن خلال هذه الشبكةِ القيمية، يتّضحُ أن الفسادَ فعلٌ مناهضٌ للإنسانية؛ إذ يدمّرُ التضامن، ويعمّقُ الفقر، ويسلبُ حقوقَ الشعب، ويدنّسُ الإيمان. ومن ثمّ، فإن مكافحةَ الفساد لا تُفهمُ بوصفِها تطبيقًا للقانون فحسب، بل عبادةً اجتماعيةً تُحيي الأخلاقَ العامة.

ولا تُتركُ القيمُ الدينيةُ الواردةُ في هذه الكتب مجرّدَ شذراتٍ من نصوصٍ مقدسة، بل يُعادُ قراءتُها في سياقِ واقعِ الفسادِ في العصرِ الحديث، بحيثُ تسهمُ كلُّ ديانةٍ بإسهامٍ أخلاقيٍّ مميّزٍ ومتساندٍ في بناءِ ثقافةٍ مضادّةٍ للفساد.

أولًا، إقامةُ الأمانة باعتبارها هويةً للإيمان. ففي الأخلاقِ الإسلامية، ليست الأمانةُ مجردَ مسؤوليةٍ وظيفية، بل مرآةً للإيمان. ومن ثمّ، فإن المسؤولَ الذي يُثري نفسَه من السلطة إنما يخونُ ليسَ الجمهورَ فحسب، بل إيمانَه أيضًا.

ثانيًا، رفضُ الجشع سبيلٌ للتحرر. فالتعاليمُ البوذية ترفضُ الفسادَ انطلاقًا من تزكيةِ النفس؛ إذ إن رفضَ الجشع هو التزامٌ بالأخلاق وسبيلٌ إلى السكينةِ الروحية. فالفسادُ، في الرؤيةِ البوذية، يستعبدُ الإنسانَ لشهواته ويغلقُ طريقَ خلاصِه الروحي.

ثالثًا، الدارما بوصفها بوصلةَ النزاهة. تعلّمُ الدارما العدلَ وضبطَ النفس، وتُعدُّ الصدقَ في المنظورِ الهندوسي أسلوبَ الإنسان في السيرِ وفقَ الدارما. ومن ثمّ، يصبحُ الموقفُ المضادُّ للفساد ممارسةً روحيةً تحفظُ توازنَ الحياة.

رابعًا، الإيمانُ المتجسّدُ في الحوكمةِ العامة. ترى الكنيسةُ الكاثوليكيةُ النزاهةَ تعبيرًا عن الوفاءِ لله الذي يدعو الإنسانَ إلى خدمةِ الآخرين بالمحبةِ والعدل. وعليه، فإن مكافحةَ الفساد فعلُ تحرّرٍ يفضحُ بنى الخطيئةِ الاجتماعية التي تنتهكُ كرامةَ الإنسان.

خامسًا، ممارسةُ الفضيلة في القيادةِ العامة. في التقليدِ الكونفوشيوسي، يجبُ على القائدِ أن يُجسّدَ الفضيلة (德 / دي)، القائمةَ على الرِنّ (المحبة)، واليِي (الحق)، واللِّي (اللياقة). أما القائدُ الجشع فيُعدُّ قد فشلَ في أداءِ التفويضِ الأخلاقي الصادر عن تيان (الإله الأعلى).

سادسًا، الدعوةُ النبوية لتحقيقِ العدالة. ينظرُ التقليدُ المسيحيُّ البروتستانتي إلى النزاهة بوصفها شهادةً للإيمان. فالحياةُ المستقيمة استجابةٌ لنداءِ الله لإقامةِ المحبةِ والعدل في المجتمع. ومن ثمّ، فإن مقاومةَ الفساد هي خدمةٌ للآخرين، وتجسيدٌ لحقيقةِ الله في المجالِ العام، وحمايةٌ لكرامةِ الإنسان من آثارِ الخطيئةِ الاجتماعية.

التربيةُ الأخلاقيةُ العامة

تدعو كتبُ لجنةِ مكافحةِ الفساد هذه المجتمعَ إلى تنميةِ وعيٍ مفاده أن القضاءَ على الفساد يحتاجُ إلى أساسٍ أخلاقيٍّ يمسُّ القيمَ الإنسانيةَ العميقة.

فالفسادُ يدمّرُ الثقة، ويقمعُ الفئاتِ الفقيرة، ويسلبُ أبناءَ الوطن حقَّهم في التعليمِ اللائق، والرعايةِ الصحيةِ العادلة، والحياةِ الاقتصاديةِ الكريمة. ولذلك، يجبُ أن تُستلهمَ مقاومةُ الفساد من حركةٍ ثقافيةٍ وقيمٍ دينيةٍ تُنشئُ نزاهةً جماعية.

وهنا تتجلّى الوظيفةُ الاستراتيجيةُ للدين بوصفِه أخلاقًا اجتماعيةً تُوجّهُ السلوك وتغرسُ النزاهةَ في الحياةِ العامة.

يمكنُ أن تتحولَ دورُ العبادة إلى مراكزَ للتثقيفِ الأخلاقي العام، كما يمكنُ إدماجُ قيمِ النزاهةِ وممارساتِ مكافحةِ الفساد في المناهجِ التعليمية. وكذلك تستطيعُ المدارسُ والمعاهدُ الدينيةُ والمعابدُ والكنائسُ أن تصبحَ فضاءاتٍ منهجيةً ومنظّمةً للتربيةِ المضادّةِ للفساد.

بل ينبغي على القياداتِ الدينية أن تكونَ قدوةً في النزاهة، وذلك برفضِ الرشوة، والابتعادِ عن السياسةِ التبادلية، وعدمِ إضفاءِ الشرعيةِ الأخلاقية على السلطةِ المنحرفة. فدورُهم يمسُّ بناءَ الضميرِ الجمعي، وتوجيهَ الخدمةِ العامةِ الصادقة، وتعزيزَ الالتزامِ الأخلاقي في المجتمع.

إن نزاهتَهم تشكّلُ سندًا أخلاقيًا يذكّرُ أصحابَ السلطة، ويدعمُ الفئاتِ المتضرّرة من إساءةِ استخدامِ النفوذ، ويُنمّي ثقافةَ الشفافية في الحياةِ الاجتماعية.

ومن الخطواتِ الأخرى لتعزيزِ التكاملِ بين الدينِ ولجنةِ مكافحةِ الفساد، اعتمادُ شهاداتٍ في الأخلاقياتِ العامة للمرشحين للمناصبِ العامة والموظفين الحكوميين، تجمعُ بين التدريبِ الإداري والتأهيلِ الأخلاقي على أيدي علماءَ من مختلفِ الأديان وأكاديميين.

كما يمكنُ توسيعُ التعاونِ البحثي مع الجامعاتِ الدينية وكلياتِ الحقوق لتطويرِ سياساتٍ عامةٍ قائمةٍ على القيم، وصياغةِ ميثاقٍ وطنيٍّ للنزاهة يجمعُ بين القيمِ الدينية ومبادئِ الحوكمةِ الحديثة.

غيرَ أن الوقايةَ من الفساد، في نهايةِ المطاف، لا تنفصلُ عن القدوةِ الأخلاقية للقادة ومشاركةِ المؤمنين. فالأديانُ تمتلكُ رأسَ مالٍ أخلاقيًا عظيمًا لإحياءِ هذه الحركة، لأنها تخاطبُ أعمقَ ما في الإنسان: الضمير.

وعندما يحيا الضميرُ بقيمِ الإيمان، تصبحُ الأمانةُ شرفًا، والصدقُ عبادة، والخدمةُ العامةُ ميدانًا للتفاني.

بهذه الروح، يجبُ أن يكونَ الدينُ مصباحًا يضيءُ دهاليزَ السلطةِ المظلمة، لا جزءًا من ظلامها. فإذا كان الفسادُ يهدمُ الإنسانية، فإن مقاومتهُ كرامةُ الإيمان. وإذا كان الفسادُ يسلبُ حقوقَ الشعب، فإن رفضَه أسمى صورِ العدالةِ الاجتماعية.

النزاهةُ عبادة، والدينُ يحرسُ النزاهةَ كي يبقى الإنسانُ مكرّمًا بوصفِه خليفةً في الأرض.

 

نُشِر هذا المقال في صحيفة كومباس يوم الخميس، 25 ديسمبر 2025.