اقتصاد الاستجمام بوصفه محركاً جديداً للنمو
محمد نور ريانتو العارف
أستاذ بجامعة شريف هداية الله الإسلامية الحكومية، الأمين العام للمجلس التنفيذي المركزي لجمعية المحاضرين الإندونيسيين، عضو مجلس إدارة الرابطة الاقتصادية الإندونيسية - فرع جاكرتا، مساعد المبعوث الخاص للرئيس لشؤون الأمن الغذائي
خلال العقود الأخيرة، لم يعد الترفيه يُفهم على أنه مجرد نشاط لملء أوقات الفراغ، بل تحوّل إلى جزء أساسي من بنية الاقتصاد الحديث. فمن الرحلات السياحية، ومدن الملاهي، والحفلات الموسيقية، والرياضة، والمهرجانات الثقافية، وصولًا إلى الفضاءات العامة الإبداعية، بات الترفيه صناعة ذات قيمة مضافة عالية، تسهم في خلق فرص عمل واسعة، وتمتلك قدرة كبيرة على تحريك عجلة الاقتصاد.
وقد أفرز هذا التحول ما يُعرف اليوم بـ اقتصاد الترفيه، وهو منظومة من الأنشطة الاقتصادية التي تقوم على التجربة (اقتصاد الخبرة)، والترفيه، والسياحة، وأنماط الحياة. وفي كثير من الدول، أصبح اقتصاد الترفيه ركيزة أساسية للنمو الاقتصادي في مرحلة ما بعد الصناعة، حين بدأت قطاعات التصنيع في التباطؤ، وتقدّمت الخدمات القائمة على التجربة لتؤدي دورًا استراتيجيًا.
تمتلك إندونيسيا، بما لديها من عائد ديمغرافي، وثروات طبيعية، وتنوع ثقافي هائل، مقومات كبيرة لتطوير اقتصاد الترفيه. غير أن السؤال الجوهري هو: إلى أي مدى أسهم هذا القطاع بالفعل في إحداث أثر ملموس على الاقتصاد الوطني؟ وما الفرص والتحديات التي يواجهها؟ وكيف ينبغي توجيه سياسات الدولة بحيث يصبح اقتصاد الترفيه حقًا محركًا للنمو الشامل؟
ببساطة، يُقصد باقتصاد الترفيه جميع الأنشطة الاقتصادية المرتبطة باستثمار وقت الفراغ لأغراض المتعة، والاسترخاء، والتسلية، وإثراء التجربة الحياتية. ويشمل هذا الاقتصاد عدة قطاعات، من بينها: السياحة (الطبيعية، والثقافية، والدينية، والاصطناعية)، وصناعات الترفيه (الموسيقى، والسينما، والعروض الفنية، والفعاليات)، والرياضة والترفيه النشط (السياحة الرياضية، واللياقة البدنية، والأنشطة الخارجية)، والاقتصاد الإبداعي (الطهي، والأزياء، والحِرف، وفنون الأداء)، إضافة إلى الفضاءات العامة والمقاصد الترفيهية الحضرية (الحدائق العامة، والمراكز الفنية، والمناطق التراثية).
وما يميز اقتصاد الترفيه عن قطاع الخدمات التقليدي هو تركيزه على قيمة التجربة؛ فالمستهلك لا يشتري سلعة أو خدمة فحسب، بل يشتري قصة، وانطباعًا، وذاكرة. على الصعيد العالمي، نما اقتصاد الترفيه بالتوازي مع اتساع الطبقة الوسطى، وتسارع التحضر، وتغيّر أنماط العمل، وارتفاع الوعي بجودة الحياة. أصبح وقت الفراغ سلعة ذات قيمة، والدول التي تحسن إدارته تحصد مكاسب اقتصادية مضاعفة.
في إندونيسيا، نما اقتصاد الترفيه منذ زمن طويل، وإن لم يُنظر إليه غالبًا بوصفه منظومة متكاملة. غير أن السياسات التنموية ظلت تميل إلى المقاربة القطاعية المجزأة. ولم يبدأ النظر إلى اقتصاد الترفيه بوصفه قطاعًا استراتيجيًا إلا خلال العقد الأخير، ولا سيما عبر تعزيز السياحة والاقتصاد الإبداعي كقطاعات رائدة. دفعت الحكومة باتجاه السياحة القائمة على التجربة، وتنمية القرى السياحية، وتنظيم الفعاليات الوطنية، وتطوير الوجهات ذات الأولوية الفائقة.
وقد وجّهت جائحة كوفيد-19 ضربة قاسية لقطاع الترفيه، لكنها كشفت في الوقت نفسه مدى أهميته للاقتصاد. فما إن أُعيد فتح حركة التنقل، حتى أصبحت الطفرة في السياحة الداخلية، والحفلات الموسيقية، والمهرجانات، والأنشطة الترفيهية أحد محركات التعافي الاقتصادي. وهذا يدل على أن اقتصاد الترفيه ليس قطاعًا مكمّلًا، بل عنصرًا متكاملًا في بنية الاقتصاد الوطني.
يتجلى الأثر الاقتصادي لاقتصاد الترفيه بوضوح في مساهمته في الناتج المحلي الإجمالي واستيعابه للأيدي العاملة. فالسياحة والاقتصاد الإبداعي يشكلان باستمرار مساهمين مهمين في الناتج المحلي، سواء بشكل مباشر أو غير مباشر. ويمتلك كل نشاط ترفيهي أثرًا مضاعفًا كبيرًا؛ فالسائح لا يدفع ثمن التذكرة فقط، بل ينفق على النقل، والإقامة، والطعام، والهدايا التذكارية، وخدمات الإرشاد، والخدمات الرقمية. وكذلك الحال مع الحفلات الموسيقية أو الفعاليات الرياضية، إذ يمتد أثرها إلى الفنادق، والمشروعات الصغيرة، والنقل المحلي، والعاملين في الصناعات الإبداعية، ومزودي التكنولوجيا.
وفي كثير من الحالات، تستطيع فعالية ترفيهية واحدة تحريك الاقتصاد المحلي خلال فترة قصيرة وبكثافة عالية. ومن الآثار المهمة أيضًا أن اقتصاد الترفيه كثيف العمالة، إذ يستوعب قوى عاملة من مختلف المستويات التعليمية، من العاملين غير الرسميين إلى المهنيين الإبداعيين. وبالنسبة لإندونيسيا التي لا تزال تواجه تحديات البطالة ونقص التشغيل، يشكّل هذا القطاع حلًا استراتيجيًا.
ومن أبرز نقاط قوة اقتصاد الترفيه في إندونيسيا ارتباطه الوثيق بالمشروعات الصغيرة والمتوسطة. فجميع الأنشطة الترفيهية تقريبًا تشرك هذه المشروعات بوصفها مزودي أغذية، وحِرف، وخدمات محلية، ومنتجات إبداعية. وتفتح القرى السياحية، على سبيل المثال، آفاقًا اقتصادية للمجتمعات الريفية دون الحاجة إلى الهجرة نحو المدن. غير أن التحدي يكمن في ضمان ألا تظل المشروعات الصغيرة مجرد مكمل، بل فاعلًا رئيسيًا يحصل على قيمة مضافة عادلة ضمن سلسلة اقتصاد الترفيه.
لا يقتصر أثر اقتصاد الترفيه على الجانب الاقتصادي، بل يمتد إلى البعدين الاجتماعي والثقافي. فمن جهة، يسهم في صون الثقافة المحلية والفنون التقليدية والحكمة الشعبية، لأنها تشكل عناصر جذب رئيسية. لكن من جهة أخرى، تبرز مخاطر تسليع الثقافة، حين تُختزل القيم الثقافية في مجرد عروض ترفيهية تفقد معناها الروحي والاجتماعي. لذلك، ينبغي أن يُقترن تطوير اقتصاد الترفيه بمقاربة أخلاقية وتشاركية، تجعل المجتمعات المحلية مالكة لثقافتها، لا مجرد موضوع للاستغلال.
في المدن، يشكّل اقتصاد الترفيه محركًا لتحول الفضاء الحضري؛ إذ باتت الحدائق العامة، ومسارات الدراجات، والمناطق الفنية، ومراكز الطهي، والفضاءات الإبداعية عناصر أساسية في التخطيط الحضري الحديث. فالمدن الصديقة للترفيه تكون أكثر جذبًا للاستثمار والمواهب والسياح. غير أن تحديات حضرية تظهر أيضًا، مثل التحسين العمراني القسري، والازدحام، وعدم تكافؤ الوصول إلى الفضاءات العامة. وإذا لم يُحسن التدبير، فقد يؤدي اقتصاد الترفيه إلى تعميق الفجوة الاجتماعية في المدن.
أدخل التطور الرقمي بُعدًا جديدًا إلى اقتصاد الترفيه؛ إذ غيّرت منصات الحجز الإلكترونية، ووسائل التواصل الاجتماعي، واقتصاد صناع المحتوى، طرق الاستمتاع بالترفيه. وأصبح الترويج للوجهات يعتمد على المحتوى الرقمي والتجربة البصرية أكثر من الكتيبات التقليدية. كما أتاح التحول الرقمي فرصًا للفاعلين الصغار للوصول إلى الأسواق العالمية، لكنه في الوقت نفسه زاد حدة المنافسة ورفع متطلبات الكفاءة الرقمية.
ورغم إمكاناته الكبيرة، لا يزال اقتصاد الترفيه في إندونيسيا يواجه تحديات هيكلية، أبرزها ضعف البنية التحتية، وتفاوت جودة الموارد البشرية، وتعقيد الأطر التنظيمية، والاعتماد المفرط على السياحة الجماعية، إضافة إلى قضايا الاستدامة البيئية. وفي خضم التفاؤل بدور اقتصاد الترفيه كمحرك نمو جديد، يبرز سؤال جوهري: ماذا لو أصبح الاقتصاد معتمدًا بشكل مفرط على هذا القطاع؟
فالتاريخ الاقتصادي يبيّن أن الاعتماد الزائد على قطاع واحد يخلق هشاشة بنيوية. وقد كشفت الجائحة بوضوح مدى قابلية اقتصاد الترفيه للتأثر بالصدمات الخارجية. كما أن إنتاجية كثير من أنشطته لا تزال منخفضة نسبيًا، ما قد يحد من نمو الأجور والقدرة التنافسية على المدى الطويل. لذلك، ينبغي النظر إلى اقتصاد الترفيه بوصفه قطاعًا مكمّلًا لا بديلًا، ضمن استراتيجية تنويع اقتصادي أوسع.
وفي السياق الإندونيسي، يجب أن يدعم هذا الاقتصاد التصنيع القائم على الثقافة، والابتكار، والاقتصاد المحلي، وأن يسير جنبًا إلى جنب مع القطاعات الإنتاجية الأخرى. وبالاختصار، ينبغي إدارة اقتصاد الترفيه كمصدر للقيمة المضافة وجودة الحياة، لا كمحرك نمو قصير الأجل فحسب. ومع الرؤية بعيدة المدى، يمكن لاقتصاد الترفيه أن يشكّل الوجه الجديد للاقتصاد الإندونيسي: اقتصادًا إنسانيًا، يحترم الثقافة، ويحافظ على البيئة.
